عُرض فيلم «أهل الكهف» من إخراج عمرو عرفة وكتابة أيمن بهجت قمر في موسم عيد الأضحى، بعد تعثرات إنتاجية استمرت عدة سنوات وتغيرات في فريق العمل والإنتاج، وقوبل الفيلم باهتمام نظرًا لشكله المغاير لأفلام الموسم، وفتور في الآن نفسه نظرًا لكونه أثقل من الأفلام التي تصدر عادة في مواسم الأعياد.
بنى الفيلم تسويقه على اقتباسه مسرحية بالعنوان نفسه لتوفيق الحكيم، بجانب كونه فيلمًا تاريخيًا ملحميًا، وبالطبع استدعائه لقصة أصحاب الكهف الدينية الإسلامية والمسيحية، واستخدامها للتعليق على سياق تاريخي استمراري أوسع من مرجعيتها الأسطورية أو الدينية، يتواجد الفيلم في مساحة عائمة بين الحكاية الرمزية العبرة Fable، والفيلم التاريخي/ فيلم الأزياء Costume Film، وينضم إلى موجة اهتمام مصرية بالأعمال التاريخية، وبخلق الملاحم الحربية أو الإنتاجات الكبيرة التي تضاهي الإنتاجات الهوليوودية.
يبدأ الفيلم بتنويه بأن الأحداث التي نحن على وشك مشاهدتها لا علاقة لها بقصة أصحاب الكهف القرآنية، بل هي مبنية على مسرحية لتوفيق الحكيم، وقرب منتصف مدة الفيلم تبدأ الأحداث في سرد تفاصيل القصة القرآنية التي استدعى منها الحكيم تفاصيله، مثل عدد السنين وعدد الأشخاص الماكثين في الكهف، يساعد ذلك الانفصال عن القصص الديني الفيلم في المرور دون تعثرات رقابية، لكن ربطه بذلك القصص حتمي من عنوانه حتى تفاصيل أحداثه.
يمكن تقسيم فيلم «أهل الكهف» إلى فصلين بالتساوي على غرار المسرح، الفصل الأول ما قبل السُّبات والثاني ما بعده، يؤطرهما ويربطهما الراوي (أحمد بدير) الذي يسرد الأحداث بشكل داخلي على مجموعة من تلاميذه، تبدأ أحداث الفصل الأول في إطار تلك القصة بتعريفنا أن ذلك الراوي المؤمن المسن مؤمن بالمسيحية؛ لذلك تطارده سلطة تحاصر المفكرين والمؤمنين، لكن قبل أن تناله أيدي مطارديه سوف يلقي محاضرته الأخيرة، اختيار أسلوب القص يرسخ الفيلم كحكاية رمزية عبرة للأجيال - تحمل الملصقات جملة «لعلها عبرة» - وهو هدفه الرئيسي.
خالد النبوي من فيلم «أهل الكهف» 2024
تدور المحاضرة الأخيرة حول عدة شخصيات، أهمها سبيل (خالد النبوي) وبولا (محمد ممدوح) المحاربان المقربان للإمبراطور دوكيوس الروماني (مصطفى فهمي)، المحارب الأول من أصل عربي والثاني من أصل روماني، لكن لا نعرف معلومات عن أصولهما العرقية أو الشخصية أكثر من ذلك، يمهد الفيلم لنفسه بافتتاحية قتالية في حلبة رومانية، تؤسس لمرجعيات الفيلم البصرية، ثم بمعركة تحدث سريعًا بين الرومان والجرمان، بها تستعرض التصميمات القتالية والحركية بجانب قدرات البطلين سبيل وبولا وشجاعتهما، كما يؤسس الفيلم مبكرًا للشخصيات التي يتبنى موقفها حتى قبل أن يكشف أن كلا المحاربين مؤمنَين بالمسيحية سرًّا، بينما يسعى الإمبراطور اليوناني للقضاء على كل مؤمن باعتباره خطرًا كبيرًا.
يتمحور فصل الفيلم الأول حول إخفاء الإيمان والحب، فلكل من البطلين حبيبة، سبيل يشارك ابنة الملك بالتبني بريسكا (غادة عادل) وعدًا مقدسًا، وبولا متزوج من إحدى الوصيفات المؤمنات في السر تنسيم (ريم مصطفى)، تسهم تلك الخطوط المتعلقة بالعلاقات الرومانسية في الوصول لنقطة تحول الفيلم، وانكشاف سر الإيمان الذي ينقلنا للفصل الثاني، وهو السبات ثم البعث، ينضم إلى سبيل وبولا ومليخة وكلبه رجل حكيم مسن يدعى خشبة (رشوان توفيق) وحفيده، وتوأم من العاملين بالسحر وألعاب الخفة، يقوم بدورهما محمد فراج، يختبئ السبعة المؤمنون خوفًا على حياتهم في داخل كهف جبلي.
يقدم الفيلم حدث نوم أهل الكهف الطويل الذي يعد التحول المحوري والمرجعية الدينية والأدبية بسرعة وبشكل عابر خفيف غير متوقع بعد مرور نصف مدته تقريبًا، تخفف تلك الهشاشة في تناول حدث سوف يغير حياة أبطاله من طبيعة السردية الدينية، وتجعلها أشبه بسوء تفاهم أو مصادفة كوميدية.
خالد النبوي في مشهد من فيلم «أهل الكهف» 2024
في مرحلة البعث يأخذ الفيلم مسارًا أكثر خفة وكأنه فيلم مختلف تمامًا، بعدما أخذ طابعًا بالغ الجدية والملحمية في نصفه الأول، حتى اختيار وتسكين الأدوار يصبح أشبه بعملية وضع ممثلين في أزياء تنكرية لمسرحية كوميدية، يبدأ ذلك بظهور مليخة (أحمد عيد) كاستراحة كوميدية من المعارك، ثم بيومي فؤاد في دور الإمبراطور الجديد بعد بعث أصحاب الكهف بعد ثلاثمائة وتسعة أعوام، يغطي النصف الثاني وعي ذاتي وربما تكاسل عن تبنيه طابعًا جديًا ودمويًا في نصفه الأول، لكنه يحتفظ بشكله التلقيني، فهو في النهاية حكاية رمزية عن تشابك الدين والسلطة، واستخدام الدين وتطويعه للوصول للسيطرة.
يمكن تتبع ما يشبه موجة من الأعمال المصرية التي تستخدم الحكايات الخرافية أو التاريخية لاستدعاء أدلة تاريخية على استغلال الدين في إطار سياسات الدولة، غالبًا ما تستخدم الأعمال التاريخية والأسطورية المرئية لتطويع ما يمكن من مجازاتها ليناسب توقيت صناعتها، أو للنظر على تشابهات الحاضر مع الماضي، لكن في تلك الموجة الأخيرة فإن الفترات التاريخية البعيدة تستخدم لتأطير تكرار التاريخ لنفسه، ووضع السياق الرسمي الحالي الناقد للجماعات الإسلامية والدينية وخطورة وصولها للسلطة في إطار تاريخي أكبر منه.
يمكن رؤية ذلك في أعمال مثل «جزيرة غمام» 2022 الذي يقع في فترة تاريخية أسطورية، بشخصيات يمكن بسهولة تفسيرها بشكل ديني أو أسطوري. تناول العمل تيمات مثل تزاوج الدين مع السلطة، وقدَّم شخصية قائد ديني كاريزماتي يسعى للحكم، ويستعمل ضعف العوام أمام الخطاب الديني لصالح مصالحه الشخصية، يستخدم العمل ما يشبه العود الأبدي للمفاهيم نفسها، الخير والشر، الدين والسلطة، ففي كل عصر رجال دين يسعون للسلطة ورجال سلطة ظالمون وصراع بينهم أو شراكة شيطانية.
يستخدم «أهل الكهف» الشكل نفسه من التكرار في إطار أسطوري على مدى عصور متباعدة، قبل البعث وبعده حتى يصل إلى عصر الراوي نفسه، في محاولة للوصول للنمط نفسه إلى الحاضر.
يمكن رؤية ذلك أيضًا في مسلسل «الحشاشين» 2024 بشكل أكثر مباشرة ووضوحًا في تمثيل السلطة الدينية والتلاعب بالبسطاء، ومن وجهة نظر الرجل الديني الكاريزماتي الذي يسعى لتحقيق سيطرة أسطورية باستخدام الدين وبتطويعه، بل بالسيطرة الحرفية على الجموع في بعض الأحيان.
لكن على عكس «جزيرة غمام» و«أهل الكهف»، فإن العمل كان أكثر مباشرة في رغبته في كسر دائرة التكرار، المثير أن تلك الأعمال عادة ما توظف شخصية مقابلة للحاكم الديني أو الساعي للحكم وهو السلطان/ الإمبراطور أو الحاكم الفاشي الظالم، في أهل الكهف دوكيوس حاكم ظالم متعطش للدماء لديه وزير كاريكاتوري منافق عرموش (صبري فواز)، لكن الحكاية وطبيعة السيناريو الكاشفة تركز على رمزية واحدة يمكن تطبيقها عبر الأزمنة، وفي كل السياقات بالشكل نفسه دون غيرها، في تلك الأعمال لا يتشابه الحكام المتسلطون عبر العصور مع حكام الحاضر، لكن بالنسبة لها تتشابه الجماعات الدينية باختلاف عقائدها وسياقاتها الاجتماعية في كل عصر.
لا يسعى أهل الكهف لحبك قصة معقدة لكي يصل إلى مجاز غامض، بل يطرحه في عدة كشوف حوارية في قصة تبدو وكأنها مكتوبة للأطفال، لكنها موجهة للكبار.
يتعامل أهل الكف مع محتواه التاريخي والأسطوري والأدبي بمنطق وجماليات قصص الأطفال، باستخدام التبسيط الشديد، التلقين والرواية، لكنه يستعين بدراما الكبار فيما يتعلق بالقتال ومشاهد العنف التي يستقيها فيما يشبه بالباستيش pastiche أي اللصق والاستعارة من عشرات الأفلام والأعمال الدرامية التاريخية المتراكمة في الثقافة الشعبية، يظهر ذلك في التغير الدائم للمزاج tone، من الجدية المفرطة للكوميديا المجردة، من الموسيقى الكلاسيكية - ألفها فاهر أتاكوغلو - ذات الطابع المسيحي، إلى موسيقى تمزج شكلًا معاصرًا من الملحمية التاريخية مع طابع إلكتروني إيقاعي، وفي قلة التفاصيل عن الشخصيات وسياقها التاريخي والمكاني والاكتفاء بأبسط الدلائل لإرشاد المتلقي، يبدو الفيلم وكأنه مساحة مفتوحة ليكون أي عدد من الأفلام والمرجعيات البصرية والسردية الأخرى.
ربما يكون التغيير الذي يطرحه أهل الكهف بشكل جماهيري هو مساحة تمثيل لثقافة وجماليات بصرية غير الإسلامية في السينما التجارية، ومساحة أقل تحديدًا وقولبة للشخصيات المسيحية، تساعد الخلفية التاريخية على رسم ذلك بشكل أكثر انفتاحًا وأقل نمطية، كما يترك المساحة لرؤية شخصيات مخطئة أو غير مثالية أو حتى شريرة في سياق أقلية لطالما عوملت بشكل نموذجي، لكنه في الوقت نفسه لا يدع لتلك الشخصيات مساحة للتعقيد في داخلها، فهناك فقط الأخيار والأشرار، مثل أي قصة خرافية رمزية بالغة القدم.
يسعى أهل الكهف لأن يكون عدة أشياء في الوقت نفسه، يسعى للملحمية والدموية الناضجة، يسعى للتلقين الخطابي الطفولي، ولإعادة سرد قصص ديني في إطار يجمع بين الشكل التاريخي والمعاصر، لكن يظهر في نتيجته النهائية كمساحة للمرجعيات السينمائية الجماهيرية المتعددة، سواء في الأسلوب البصري أو الخيارات السردية والقصصية، لكنه يفتح مساحة لخلق جمهور لأنواع سينمائية انحسرت محليًّا لفترات طويلة.